کد مطلب:370265 سه شنبه 23 مرداد 1397 آمار بازدید:607

الفصل الأول الزهد والعبادة
 













الصفحة 8












الصفحة 9


زهد «الخوارج» وعبادتهم:


لقد عرف عن «الخوارج»: أنهم عباد وزهاد، همهم الدین، والآخرة، ولیس لهم فی الدنیا الزائلة مأرب ولا رغبة. وهذا هو ما یروج له «الخوارج» أنفسهم.


وعرف عنهم أیضاً أنهم قد وقذتهم العبادة، حتى أصبحت جباههم سوداء، وأصبحوا مضرب المثل فی اجتهادهم فی العبادة، وفی عزوفهم عن الدنیا، وتشددهم فی الالتزام بالحكم الشرعی، هذا إلى جانب قراءتهم للقرآن، حتى عرفوا باسم القراء قبل ظهور الخلاف منهم على أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی صفین.


كما أن مما عرف عنهم هو الصعقة عند قراءة القرآن، فقد سئل أنس عن قوم یصعقون عند القراءة فقال:


«ذلك فعل الخوارج(1)»(2).


ومعنى ذلك هو أن ما یعرف بین الصوفیة من التظاهر بحالات الوجد والغشیة، والصعق عند قراءة القرآن.. قد یكون موروثاً عن «الخوارج».


____________



(1) راجع: العقود الفضیة للحارثی الإباضی، ص46و47.


(2) ربیع الأبرار، ج3 ص587.













الصفحة 10


هذا هو رأی الأمویین أیضاً:


واللافت للنظر هنا: أننا نجد: أن هذه هی نظرة الأمویین للخوارج، فإن مروان بن الحكم قد اعتبر أن «الخوارج» هم العلماء والزهاد، وذلك فی كلام له مع الإمام الحسن (علیه السلام)(1).


وقال عمر بن عبد العزیز لبعض «الخوارج»: «.. إنی قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنیا، أو متاع، ولكنكم أردتم الآخرة، فأخطأتم سبیلها»(2).


ماذا یقول المؤلفون:


ومهما یكن من أمر: فإن الكتاب والمؤلفین حین قرأوا ما ذكره المؤرخون عن حالات «الخوارج» وعبادتهم. وما إلى ذلك.. أخذوه منهم بعجره وبجره، ولم یخضعوه للبحث الدقیق والعمیق، لیعرفوا مدى صحته، ولأجل ذلك نجد أنهم ما فتئوا یؤكدون على أن «الخوارج» هم الفئة المؤمنة الملتزمة، التی بقیت وفیة لمبادئها، ولمثلها العلیا(3).


وقالوا عنهم أیضاً: «إن الخوارج كانوا حزباً ثائراً، كما یدل علیه اسمهم، وحزباً ثائراً تقیاً على الحقیقة. فهم لم یقوموا كعرب، ولكن


____________



(1) راجع: بهج الصباغة، ج5 ص266 وج3 ص232 وتذكرة الخواص ص207 وراجع: شرح النهج للمعتزلی ج1 ص114و115.


(2) فجر الإسلام ص263 والكامل فی التاریخ ج5 ص46.


(3) قضایا فی التاریخ الإسلامی، بحث الخوارج، ص66و72 و73و89 وفجر الإسلام ص64 شرح نهج البلاغة للمعتزلی، ج5 ص131و79و129و131 وتحلیلی أز تاریخ إسلام ج1 ص332 وتاریخ الفرق الإسلامیة، ص283 والخوارج والشیعة، ص36و42و59و39 وتاریخ الدولة العربیة ص60و62.













الصفحة 11


كمسلمین، وسلكوا مسلك الأتقیاء من المسلمین، وهم القراء».


«وقد وجهت التقوى فی الدولة الإسلامیة توجیهاً سیاسیاً، وكانت فی أعلى درجاتها عند الخوارج؛ فإن الله تعالى طلب إلى المسلم عندما تعصى أوامره ألاّ یسكت على ذلك»(1).


وقالوا أیضاً: «كانوا حزباً ثوریاً، یعتصم بالتقوى، لم ینشأوا عن عصبیة العروبة، بل عن الإسلام»(2).


هذا التصور لیس جدیداً:


وقد انخدع الناس بهذه المظاهر منذ بدایة ظهورهم، حتى اضطر علی (علیه السلام) وأصحابه إلى مواجهة هذا الفهم الساذج للأمور، فقد ذكر «الخوارج» عند ابن عباس، فقال: «لیسوا بأشد اجتهاداً من الیهود والنصارى، وهم یصلون»(3) وفی نص آخر: یضلون(4).


على أنه یكفی فی بیان زیف هذه الظاهرة، ما ورد عن رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی حقهم من تنصیص على أن اجتهادهم فی العبادة ما هو إلا زیف ومظاهر، لا حقیقة لها، ولا تعنی أن ثمة عمقاً إیمانیاً مستقراً فی القلوب، بل هی مجرد حركات للخوارج، لیس وراءها سوى الخواء التام عن أیة حالة إیمانیة صادقة، فلیس هناك إلا الجهل الذریع، والحماقة القاتلة.


____________



(1) نظرة عامة فی تاریخ الفقه الإسلامی، ص170 للدكتور علی حسن عبد القادر.


(2) الإباضیة عقیدة ومذهباً، ص31 عن الخوارج والشیعة ص41.


(3) المصنف للصنعانی ج10 ص153.


(4) راجع: الإباضیة عقیدة ومذهباً ص38 والتنبیه والرد على أهل الأهواء والبدع ص184.













الصفحة 12


الإصرار على تكذیب رسول الله (صلى الله علیه وآله):


ولا ندری ما هو السبب الحقیقی لهذا الإصرار على الزعم الذی ستأتی الشواهد الكثیرة على أنه لا واقع له..


وهو صدق تقواهم، وثبات قدمهم فی الإیمان، والعمل الصالح..


مع أن الحدیث المتواتر عن رسول الله (صلى الله علیه وآله) یثبت أنهم یمرقون من الدین كما یمرق السهم من الرمیة، وأنهم یقرؤون القرآن لا یجاوز تراقیهم، وقد أكد التاریخ بصورة قاطعة وقوع الإخبارات الغیبیة عن وجود ذی الثدیة فیهم، وعن أنهم لا یعبرون النهر، وعن أنه لا یقتل من أصحاب علی عشرة ولا یفلت من أهل النهروان عشرة، وغیر ذلك..


إن الوقائع هذه قد أثبتت بصورة قاطعة وحسیة فضلاً عن تواتر نقلها، وفضلاً عن أن ناقلها هو المعصوم ـ نعم قد أثبتت أن حدیث ـ النبی (صلى الله علیه وآله) فی مروقهم من الدین، وسائر اوصافهم.. صحیح وثابت..


فما هذه المراوغات من هؤلاء الكتاب؟!.. وما هی دوافعهم لتكذیب هذا النقل القطعی الصادق؟!.


تبریرات لا تصح لتشدّد «الخوارج» فی الدین:


إننا فی حین نرى هؤلاء الكتاب یحاولون التأكید على تقوى «الخوارج»، وعلى صلابتهم فی أمر الدین..


فإنهم یحاولون إیجاد المخارج لما كان علیه «الخوارج» من جهل وسطحیة، ویتلمسون المبررات للنهج الإجرامی الذی یصل بهم إلى حدود لیس ثمة أخطر منها على كل الواقع الدینی والإیمانی..


هذا النهج الذی تجلَّى فی عقائدهم، وظهر فی مواقفهم












الصفحة 13


وممارساتهم، لیجسِّد أبشع صورة للتخلف والجهل، والقسوة والغلظة، والبعد عن أی معنى إنسانی أو إیمانی.. كما سنوضحه فیما یأتی من فصول..


وقد كان عمدة ما علل هؤلاء المؤلفون حال الخوارج، وممارساتهم هو الجهل والسذاجة، والسطحیة(1).


ولعل النص التالی: قد استنفد جهود هؤلاء فی التبریر، یقول أبو زهرة: «إن الخوارج كان أكثرهم من عرب البادیة، وقلیل منهم كان من عرب القرى، وهؤلاء كانوا فی فقر شدید قبیل الإسلام، ولما جاء الإسلام لم تزد حالهم المادیة حسناً؛ لأنهم استمروا فی بادیتهم بلأوائها وشدتها، وصعوبة الحیاة فیها. وأصاب الإسلام شغاف قلوبهم، مع سذاجة فی التفكیر، وضیق فی التصور، وبعد عن العلوم؛ فتكوّن من مجموع ذلك نفوس مؤمنة، متعصبة، لضیق نطاق العقول، ومتهورة؛ لأنها نابعة من الصحراء، وزاهدة؛ لأنها لم تجد؟».


إلى أن قال: «ولقد كانت هذه المعیشة التی یعیشونها فی بیدائهم دافعة لهم على الخشونة، والقسوة، والعنف؛ إذ النفس صورة لما تألف. ولو أنهم عاشوا عیشة رافهة، فاكهة، فی نعیم، أو فی نوع منه؛ لخفف من عنفهم؛ وألان صلابتهم، ورطب شدتهم»(1).


وقد أضاف البعض هنا:


____________



(1) راجع: تاریخ المذاهب الإسلامیة ص70و71 وراجع: تحلیلی أز تاریخ إسلام ج1 ص132.













الصفحة 14


أن فقرهم، ورفاهیة القبائل الأخرى قد زاد من حقدهم، بالإضافة إلى أن تمسكهم الشدید بالتقالید، والطبائع البدویة، كالتعصب للقبیلة، والولاء لها، قد جعلهم یبغضون الحكومة السیاسیة، وتمردوا على نمط الحیاة الاجتماعیة، فثورتهم تمثل ثورة البدو على سیادة الدولة(1).


ثم عاد نفس هذا البعض لیقول فی مورد آخر، ما یردّ ویتنافى مع هذا الذی ذكرناه، حین ادعى أنهم لم یرفضوا فكرة الخلافة، بل أرادوا إقامة دولة على أساس دیمقراطی، فهم جمهوریّو الإسلام، انطلاقاً من فهمهم لعدالة الإسلام.


ویدعی أیضاً: أن طبائع البداوة قد انمحت منهم باعتناقهم الإسلام، وهجرتهم من البادیة، وإقامتهم فی الأمصار، وانخراطهم فی الجیش الإسلامی إلخ(2).


ثم إن هذا البعض أیضاً یقول: «ومن المؤرخین من ذهب إلى أن ظهور الخوارج یعبر عن رغبة القبائل العربیة، من غیر قریش فی إقصائها عن التشبث بالخلافة، والاستئثار بالحكم. فالخوارج من هذه الناحیة حزب سیاسی، وحركتهم تمثل ثورة دیمقراطیة، ضد الأرستقراطیة الثیوقراطیة الجدیدة من كبار الصحابة، فهم لذلك جمهوریّو الإسلام، ودستوریو الإسلام»(3).


ونحن.. لا نستطیع أن نوافق أبا زهرة ولا هؤلاء على كثیر مما


____________



(1) قضایا فی التاریخ الإسلامی ص37و50و51 عن أبی زهرة، وعن عمر أبی النصر فی كتاب: الخوارج فی الإسلام ص18.


(2) المصدر نفسه ص73و74.


(3) نفس المصدر ص36.













الصفحة 15


ذكره وذكروه..


فأولاً: إنه قد ادّعى: أن الإسلام لم یستطع أن یغیر شیئاً من حالتهم المادیة. فبقوا على ما هم علیه من فقر وحاجة؛ فإن أكثر «الخوارج» كانوا عراقیین فی بادئ الأمر، وقسم منهم من الموالی؛ وكانوا قد شاركوا فی الحروب، ونالوا من الغنائم التی كانت كثیراًَ ما تحصل، كما نال غیرهم، وكانت بلادهم من البلاد الخصبة، التی یعتمد علیها فی التموین للجیوش المحاربة، وقد اختار علی (علیه السلام) الكوفة عاصمة له لأمور منها هذا الأمر بالذات(1).


وقد اختلف حال الناس بعد ظهور الإسلام عن حالهم قبله حتى مع أمرائهم وحكامهم، الذین كانوا یحرمونهم من أبسط الحقوق، ویستأثرون بالامتیازات لأنفسهم.


بل تقدم أن بعض أمراء «الخوارج» كان یشتری السیف بعشرین ألف درهم.


فهل یصح القول بعد هذا: أنهم كانوا یعانون من الحاجة الملحة؛ والفقر المدقع؟!! إذ أنهم لو كانوا كما یدعى لهم ویدعونه، لأنفسهم أهل تقوى ودین، فسوف ینیلون فقراءهم نصیباً من هذه الدنیا التی كانت بین أیدیهم.


ثانیاً: لقد كانت الفرصة متاحة لهم للاستفادة من العلوم الإسلامیة، وقد كان بین ظهرانیهم باب مدینة العلم مدة طویلة، یفقههم فی الدین، ویوقفهم على حدود الحلال والحرام، وقد ركز فیهم رایة الإیمان. كما


____________



(1) راجع: مقالاً لنا بعنوان: استراتیجیة الكوفة فی خلافة الإمام علی (علیه السلام) فی كتابنا: دراسات وبحوث فی التاریخ والإسلام.













الصفحة 16


عرفنا فیما تقدم..


إذن.. فإن أی تقصیر فی مجال الحصول على العلوم والمعارف، إنما یقع على عاتقهم، ویأتی من ناحیتهم، ولیس لهم أی عذر فی ذلك.


ولكن الحقیقة هی أنهم قد عرفوا كل شیء، لكن الشیطان قد زین لهم أعمالهم كما توضحه هذه الدراسة..


ثالثاً: أما قوله: إن الإسلام قد أصاب شغاف قلوبهم، وكذا قول غیره: إنهم كانوا عباداً مؤمنین، ملتزمین بحرفیة الحكم الشرعی، أوفیاء لمبادئهم، ولمثلهم العلیا.


فهو أیضاً لا یصح؛ فقد عرفنا: أن رسول الله (صلى الله علیه وآله) ـ فیما روی عنه ـ قد وصفهم بأنهم یمرقون من الدین مروق السهم من الرمیة، وأنهم یقرؤون القرآن لا یجاوز تراقیهم.


وقد وصفهم أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) بكثیر من الأوصاف الناطقة بإنحرافهم عن الصراط السوی، وبأنهم یریدون الدنیا وقد غلب علیهم المراء، واتبعوا أهواءهم. وغیر ذلك..


أضف إلى ذلك: أن تاریخهم حافل بالأحداث والتصریحات والمواقف، والممارسات التی تدل على أن الكثیرین منهم، إن لم نقل أكثرهم ـ إذا استثنینا بعض المخدوعین، والسذج والبسطاء ـ حتى على مستوى القیادات فیهم لم یكونوا على هذه الصفة. وإن تلك العبادة، وهاتیكم الشعارات ما كانت إلا أمراً صوریاً ظاهریاً، لا یعبر عن واقعٍ حیٍ وأصیل فی هذا المجال..


وستأتی طائفة من هذه النصوص فی ضمن ما یأتی من مطالب..












الصفحة 17


وأما ما ذكره ذلك البعض كإضافات على كلام أبی زهرة، فهو أوضح فساداً، وأبعد عن الصواب، وعن الموضوعیة، لأمور عدیدة نقتصر منها على ما یلی:


أولاً: إن الوقائع التاریخیة تثبت: أن «الخوارج» لم یكونوا دیمقراطیین أبداً، ولم یكونوا یحترمون رأی الأكثریة منهم، بل كانوا یحكمون بالكفر ویتحكمون بجبریة قاسیة حتى ببعضهم البعض، فیسقطون أمراءهم لأتفه الكلمات أو التصرفات. أو ینقسمون على أنفسهم، فیكون لكل فرقة منهم أمیر، ولم نجد منهم أی احترام لآراء غیرهم، بل كانوا یكفرون ویقتلون كل من خالفهم فی الرأی والاعتقاد من المسلمین.. ولكنهم لا یجرؤون على المساس بغیر المسلمین.. فأین هی الجمهوریة الإسلامیة والدیمقراطیة فیهم..


ثانیاً: إن دعوى أن طبائع البداوة قد انمحت باعتناقهم للإسلام، وهجرتهم من البادیة إلى الأمصار.. أغرب وأعجب، فإن من بدیهیات التاریخ: أن أشد الناس إغراقاً فی البداوة فی طبائعهم، هم «الخوارج»، وقد بقی ذلك فیهم إلى عصور متأخرة بصورة ظاهرة، ولافتة، وإن بقایاهم لم یزل هذا حالهم إلى یومنا هذا.. رغم أنهم قد غیروا وبدلوا، أو تستروا على كثیر من اعتقاداتهم، لیمكنهم البقاء..


ثالثاً: إن الحدیث عن رغبة القبائل العربیة فی إقصاء قریش عن الخلافة غیر دقیق، فإن «الخوارج» كانوا خلیطاً غیر متجانس، وكان فیهم العربی، وغیر العربی.. ولم یكن تأمیر أمرائهم نتیجة قرار اتخذته القبائل العربیة بإقصاء قریش عن الخلافة.


وإلا.. فإن العرب الذین حاربوا «الخوارج» مع علی (علیه السلام)، والذین












الصفحة 18


حاربوا «الخوارج» على مدى التاریخ كانوا أكثر عدداً وأعظم نفوذاً، وهم الرؤساء وأهل الرأی.. وإنما كان «الخوارج» مجرد شراذم ورعاع من الناس، لا یجمعهم إلا الطمع والجهل، كما سنرى..


رابعاً: لم نعرف ماذا یقصد بوصفه للخوارج بأنهم دستوریو الإسلام، فأی دستور كانوا یسعون لتطبیقه والالتزام به.


فهل هو دستور الإسلام؟! فإن هذا الدستور یقضی علیهم بلزوم التزامهم بقول إمامهم المنصوب من قبل الله، وهو علی بن أبی طالب (علیه السلام)..


أم هو دستور العرف الإنسانی؟ وهذا الدستور أیضاً یقضی علیهم بلزوم الوفاء بالعهود والعقود، واحترامها.. واحترام كلمة العالم الرشید.. واحترام العهد الذی أعطوه، فلا ینكثون البیعة، ولا یطلبون نقض عهد أبرمه إمامهم وسیدهم وقائدهم..


خامساً: إن ظهور «الخوارج» ـ وإن كان طمعاً فی الدنیا، وقد لبَّسوا هذه الأطماع لباس الدین.. ولكن التعلیل الذی ذكره لا یمكن قبوله، إذ أنه لو صح لوجب أن یوجد هؤلاء «الخوارج» فی كل عصر ومصر، مادام أن البداوة موجودة فی جمیع العصور وفی مختلف المناطق، وفی مقابلها حیاة الرفاهیة والترف، وغیر ذلك من أمور وحالات، بقیت مغمورة فی ضمیر هذا الكاتب، ولم یر ضرورة للإفصاح عنها..


سادساً: أضف إلى ذلك: أن غیرهم من أهل قبائلهم ومن سائر القبائل لم یكونوا من حیث الترف والنعیم والبداوة، وغیر ذلك أفضل حالاً من «الخوارج»، ولعل كثیرین من هؤلاء كانوا أفضل حالاً من أولئك.












الصفحة 19


كانوا أفضل حالاً من أولئك. فلماذا لم یصیروا مثلهم، ولم ینضموا إلیهم؟!


سابعاً: وأخیراً، إن ما ظهر من «الخوارج» من افاعیل، ومن اعتقادات لا یقرها عقل ولا شرع، ولا وجدان، لا علاقة له بهذا الترف، ولا بتلك البداوة، ولا بذلك التمرد المزعوم، ولا یصح تعلیله به، كما هو معلوم..


وذلك لأننا لم نجدهم یصدرون أی حكم ضد المترفین بما هم مترفون، بل كانت أحكامهم، عامة لا استثناء فیها.


كما أنهم فی ممارساتهم لم یرحموا فقیراً لفقره، بل مارسوا كل قسوتهم ضد هؤلاء الفقراء والمسحوقین فی الغالب، ولم یشفع لهم فقرهم أو ضعفهم، ولم یخفف من حدة تصرفاتهم تجاههم.. وإن بقرهم لبطون الحبالى خیر شاهد ودلیل على ذلك.


العجب هو الداء الدوی:


والذی یبدو هو أن عجب «الخوارج» بأنفسهم، وبعبادتهم، قد أسهم فی اندفاعهم نحو اتخاذ مواقفهم الرعناء تلك، ودفعهم إلى الإمعان فی الانحراف.. وإلى الإغراق فیه.


هذا بالإضافة: إلى أن إعجاب الناس بهم أیضاً قد یكون له تأثیر فی تشجیعهم على تجاوز حدود الشرع، وخروجهم على أحكام الدین..


فعن أنس قال: ذكر لی: أن رسول الله (صلى الله علیه وآله) قال ـ ولم أسمعه منه ـ: إن فیكم قوماً یعبدون ویدأبون، حتى یعجب بهم الناس، وتعجبهم نفوسهم، یمرقون












الصفحة 20


من الدین مروق السهم من الرمیة(1).


وواضح: أنه إذا كانت عبادة الإنسان بعیدة عن الوعی، وعن التأمل، والفكر، فإنها تكون مجرد طقوس یؤدیها الإنسان، ولا یحس بها، ولا یتفاعل معها إلا من خلال ما یبذله من جهد جسدی، من دون أن یشعر بعظمة الله سبحانه، أو أن یستشعر لذیذ القربى منه، أو یشرف بروحه على آفاق جلاله، ویتلمس بمشاعره وأحاسیسه معانی كمالاته السامیة..


ومن یكون كذلك فسوف یرى: أن هذا الجهد الجسدی له قیمته، وخطره، فی میزانه المادی، فیرى نفسه أنه أعطى وقدم ما لم یقدمه وما لم یعطه غیره، وتصیر له بذلك المنة لیس فقط على الآخرین ویتعالى علیهم وإنما على رب العالمین، ویبتلى بالعجب بالنفس، وذلك هو الهلاك بعینه.


الوصف الدقیق:


وواضح: أن «الخوارج» كانوا برهة من الزمن مع أمیر المؤمنین، وقد عانى منهم الكثیر، وصبر علیهم، حتى اعلنوا بالخروج علیه، فحاربهم وقتلهم فی النهروان إلا الشرید، وحاربهم بعد ذلك أیضاً.


فهو (علیه السلام) أعرف الناس بهم، وإذا راجعنا أقواله فیهم، فإننا نجده (علیه السلام) لا یعترف لهم بالعبادة ولا بالزهد، بل هو یذكر لتحركاتهم دوافع دنیویة وشیطانیة، الأمر الذی یشیر إلى أن مواقفهم لم تكن دینیة إلهیة، وإنما كان لأهوائهم ومصالحهم الشخصیة، ومفاهیمهم


____________



(1) مسند أحمد ج3 ص183 وراجع: المصنف للصنعانی ج10 ص154 وكنز العمال ج11 ص177و310 عن أحمد، وعبد الرزاق ومجمع الزوائد ج6 ص229 وراجع: مستدرك الحاكم ج2 ص147 وتلخصیه للذهبی بهامشه والبدایة والنهایة ج7/297.













الصفحة 21


الجاهلیة، وللنزعات الشیطانیة، والعصبیات القبلیة، دور كبیر فی إثارتهم، وفی اتخاذهم الكثیر من المواقف الرعناء.


وكانوا یتخیلون كلهم أو كثیر منهم: أن ذلك من الدین، ومن الحق الذی یسعون إلیه، ویعملون فی سبیل الوصول إلیه؛ فهم مصداق ظاهر للأخسرین أعمالاً، الذین ضل سعیهم فی الحیاة الدنیا، وهم یحسبون أنهم یحسنون صنعاً، كما قرره علی أمیر المؤمنین (صلوات الله وسلامه علیه)، فی كلام له عنهم(1).


ومهما یكن من أمر: فإن أمیر المؤمنین (علیه السلام)، الذی كان أعرف بهم من كل أحد، ركب، ومر بهم وهم صرعى، فقال: «لقد صرعكم من غركم.


قیل: ومن غرَّهم؟


قال: الشیطان. وأنفس السوء»(2).


وفی نص آخر: «غرّهم الشیطان، وأنفس بالسوء أمّارة، غرتهم بالأمانی، وزینت لهم


____________



(1) الكامل فی الأدب ج3 ص188 وشرح النهج للمعتزلی ج2 ص278، والفتوح لابن أعثم ج4 ص127 وكشف الغمة ج1 ص266 والثقات لابن حبان ج2 ص296 ومناقب آل أبی طالب ج3 ص186/187 عن تفسیر القشیری، وعن الإبانة للعكبری، والبحار ط قدیم ج8 ص550و553و552و555و571 عن الغارات، والعمدة، وتفسیر الثعلبی، وتهذیب تاریخ دمشق ج7 ص307 وتفسیر البرهان ج2 ص295. والدر المنثور ج4 ص253 عن عبد الرزاق، والفریابی، وابن المنذر، وابن أبی حاتم، وابن مردویه. وفرائد السمطین ج1 ص395.


(2) مروج الذهب ج2 ص407 ـ وراجع: تذكرة الخواص ص105.













الصفحة 22


المعاصی، ونبأتهم بأنهم ظاهرون»(1).


وقال (علیه السلام) مخاطباً لهم بالنهروان: «أیتها العصابة، التی أخرجتها اللجاجة، وصدّها عن الحق الهوى، فأصبحت فی لبسٍ وخطأ»(2).


وفی نص آخر، أنه قال لهم: «یا قوم، إنه قد غلب علیكم اللجاج والمراء، واتبعتم أهواءكم، فطمح بكم تزیین الشیطان لكم الخ»(3).


وحسب نص آخر: «أیتها العصابة التی أخرجها المراء واللجاج عن الحق، وطمح بها الهوى إلى الباطل»(4).


وعند الطبری: «أیتها العصابة التی أخرجها عداوة المراء، واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمح بها النزق، وأصبحت فی اللبس، والخطب العظیم»(5).


وفی نص آخر لم یذكر قوله: «وطمح بها النزق الخ..». لكنه قال: «إن أنفسكم الأمارة سولت لكم فراقی لهذه الحكومة التی أنتم ابتدأتموها، وسألتموها وأنا لها كاره. وأنبأتكم أن القوم إنما فعلوها مكیدة، فأبیتم علی إباء المخالفین، وعندتم علی عناد العاصین الخ»(6).


ولعل فی اختلاف هذه النصوص، ولا سیما هذا النص الأخیر مع ما


____________



(1) البدایة والنهایة ج7 ص289، وتاریخ الأمم والملوك ج4 ص66 والكامل فی التاریخ ج3 ص348 والبحار ط قدیم ج8 ص556 ونهج البلاغة قسم الحكم رقم 329 حسب ترقیم المعتزلی وبشرح عبده ج3 ص230.


(2) الأخبار الطوال ص207/208 راجع الموفقیات ص325.


(3) أنساب الأشراف، بتحقیق المحمودی ج2 ص371.


(4) تذكرة الخواص ص100.


(5) تاریخ الأمم والملوك ج4 ص62 والكامل فی التاریخ ج3 ص343.


(6) نور الأبصار للشبلنجی ص102 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكی ص92.













الصفحة 23


سبقه ما یثیر احتمال تعدد الواقعة، فدعا ذلك إلى التركیز على خصوصیات مختلفة تتناسب مع الحالات المختلفة.


ونلاحظ: أنه (علیه السلام) قد قرر فی كلماته تلك:


ألف: أن «الخوارج» كانوا یتوقعون الظفر فی حربهم له (علیه السلام).


ب: أنه كانت لدیهم أمانی قد غرتهم.


ج: إن أنفسهم الأمارة وأمانیهم قد زینت لهم المعاصی.


د: أن الشیطان زین لهم وغرهم، فأوردهم موارد الهلكة.


هـ: أنهم قد التبست علیهم الأمور، ووقعوا فی الخطأ، حینما لم یعرفوا الحق.


و: أن الهوى قد صدهم عن الحق.


ز: إنهم كانوا قد غلب علیهم اللجاج والمراء.


ح: إن النزق قد طمح بهم.


ط: ان النزق دعاهم إلى الخلاف والعناد.


ی: إنهم إنما یقاتلون من أجل الدنیا، كما سیأتی فی كلامه (علیه السلام) مع زرعة بن البرج.


وستأتی كلمات أخرى له (علیه السلام)، فیها إشارات أخرى إلى دوافعهم، وحالاتهم.


ثم إن مما یدل على ما ذكره أمیر المؤمنین (علیه السلام) من أن الشیطان قد زین لهم المعاصی، ما كانوا یرتكبونه فی حق الأبریاء من جرائم، وموبقات، ومآثم. وذلك فی أول ظهورهم، وحتى قبل معركة النهروان الشهیرة، وقبل أن یضعوا لأنفسهم منهجاً عقائدیاً یبیحون فیه لأنفسهم












الصفحة 24


ارتكاب تلك الموبقات والمآثم.


أضف إلى ذلك: أن حربهم لأمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) لم تكن مبررة عندهم بالقدر الكافی، فلم یكن لدیهم فی ذلك برهان، ولا كانوا واثقین من صواب موقفهم، بل كانوا مجرد شكاك؛ فمضوا على شكهم حتى قتل أكثرهم، وقتل بسببهم أو على أیدیهم كثیرون آخرون، وقد تحدثنا عن شكهم هذا فی موضع آخر من هذا الكتاب.


ونحن هنا بهدف توفیر الوقت، وادخار الجهد سوف نقتصر على نماذج قلیلة من مخالفاتهم، ومواقفهم اللاإنسانیة، وأفعالهم التی تخالف اعتقاداتهم وأقوالهم، وهی التالیة:


القتال على الأموال:


إن من یراجع تاریخ الوقائع والأحداث لا یساوره شك فی أن قتالهم لم یكن جهاداً فی سبیل الله، بل كان على الأموال، ومن أجل الدنیا بصورة عامة، فقد قال سید الوصیین علی أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام)، لزرعة بن البرج، فی احتجاجه على أهل النهروان: «لو كنت محقاً كان فی الموت على الحق تعزیة عن الدنیا، إن الشیطان قد استهواكم، فاتقوا الله عز وجل؛ إنه لا خیر فی دنیا تقاتلون علیها»(1).


ویقول النص التاریخی أیضاً: «.. وجعلت الخوارج تقاتل على القدح یؤخذ منها، والسوط، والعلف، والحشیش أشد قتال»(2).


____________



(1) تاریخ الأمم والملوك، ج4 ص53 وبهج الصباغة، ج7 ص164.


(2) الكامل فی الأدب، ج3 ص397 والعقد الفرید، ج1 ص223 وفیه كانت الخوارج تقاتل إلخ.. وشرح النهج للمعتزلی، ج4 ص208 راجع: فجر الإسلام، ص264.













الصفحة 25


وقد قلنا حین الحدیث عن تركیبة «الخوارج» أن معقلاً الذی أرسله علی (علیه السلام) لقتال الخریت الخارجی قد قال لأصحابه عن الخوارج: إنهم علوج كسروا الخراج، ولصوص الخ..(1).


ویؤید ذلك أیضاً: نصوص تاریخیة أخرى(2).


ویقول المعتزلی: «وقد خرج بعد هذین جماعة من خوارج كرمان، وجماعة أخرى من أهل عمان، لا نباهة لهم. وقد ذكرهم أبو إسحاق الصابی، فی كتاب «الناجی» وكلهم بمعزل عن طرائق سلفهم، وإنما وكدهم، وقصدهم إلى إخافة السبیل، والفساد فی الأرض، واكتساب الأموال من غیر حلها»(3).


هذا، وقد سأل الحسن البصری رجل من «الخوارج»، فقال: ما تقول فی «الخوارج»؟


فقال: هم أصحاب دنیا.


قال: من أین قلت، وأحدهم یمشی فی الرمح حتى ینكسر فیه، ویخرج من أهله وولده؟!


قال الحسن: حدثنی عن السلطان، أیمنعك من إقامة الصلاة، وإیتاء الزكاة، والحج والعمرة؟


قال: لا.


قال: فأراه إنما منعك الدنیا فقاتلته علیها.


قال إسحاق: فحدثت بهذا الحدیث الغاضری ـ ظریفاً كان بالمدینة


____________



(1) الغارات، ج1 هامش ص353.


(2) راجع: تاریخ الأمم والملوك ج4 ص93 والكامل فی التاریخ ج3 ص367.


(3) شرح النهج للمعتزلی ج5 ص76.













الصفحة 26


ـ فقال:


صدق الحسن، ولو أن أحدهم صام حتى ینعقد، وسجد حتى ینخر جبینه، واتخذ عسقلان مراغةً، ما منعه السلطان؛ فإذا جاء یطلب دیناراً أو درهماً لُقیَ بالسیوف الحداد، والأدراع الشداد(1).


ولنا تحفظ على أسلوب الحسن البصری الظاهر فی أنه یرضى بحكومة أی كان ـ حتى یزید أو الولید، إذا كان لا یمنع الناس من الصلاة والصوم ونحو ذلك.. فإن هذا المنطق مرفوض فی الإسلام. ولهذا البحث مجال آخر.


غیر أن ما یهمنا هنا هو الإشارة إلى أن «الخوارج» كانوا طلاب دنیا، ویبحثون عن الدینار والدرهم.


وقد قال الأشتر للذین خدعتهم مكیدة رفع المصاحف، من الذین كانوا یتظاهرون بالعبادة والصلاة، ثم صاروا فیما بعد خوارج: «كنا نظن صلاتكم زهادة فی الدنیا وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنیا من الموت ألا فقبحاً یا أشباه النیب الجلالة»(2).


وإذا قرأنا قصة المستورد أیضاً فإننا نجد فیها دلالة ظاهرة على أن زهد «الخوارج» لم یكن حقیقیاً، بل كان مصطنعاً، فلتراجع تلك القصة فی مصادرها(3).


لم یعطه المال، فأعلن الحرب:


ومما یدل على مدى تأثیر الأطماع فیهم: أننا نجد الفارس


____________



(1) البصائر والذخائر ج1 ص154.


(2) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص219 وراجع: صفین ص491 والمعیار والموازنة ص164.


(3) وراجع: الخوارج والشیعة ص55.













الصفحة 27


المشهور: شبیب بن یزید الشیبانی الخارجی كان: «فی ابتداء أمره قصد الشام، ونزل على روح بن زنباغ، وقال له: سل أمیر المؤمنین أن یفرض لی فی أهل الشرف، فإن لی فی بنی شیبان تبعاً كثیراً.


فسأل روح بن زنباغ عبد الملك بن مروان فی ذلك، فقال: هذا رجل لا أعرفه، وأخشى أن یكون حروریاً.


فذكر روح لشبیب: أن عبد الملك ذكر أنه لا یعرفه. فقال: سیعرفنی بعد هذا.


ورجع إلى بنی شیبان، وجمع من الخوارج الصالحیة مقدار ألف رجل، واستولى بهم على ما بین كسكر والمدائن».


ثم یذكر المؤرخون: كیف أنه هزم للحجاج عشرین جیشاً فی مدة سنتین، وغیر ذلك من أمور(1).


یرید المال لیعصی به الله:


وقد كان الطرماح خارجیاً هو الذی یقول:


 









امخترمی ریب المنون ولم أنل من المال ما أعصی به وأطیع(2)



خبرتهم بالخمر وبالعواهر:


وحین سأل أبو حزابة عبیدة بن هلال الخارجی عن الخمر، وعن العواهر نجد عبیدة یجیبه بما یدل على أنه من أعرف الناس فی ذلك.


فقد قال له: «أی الخمر أطیب؟ خمر السهل، أم خمر الجبل؟


____________



(1) راجع: الفرق بین الفرق ص111 والفتوح لابن أعثم ج7 ص84و85.


(2) الأغانی ج10 ص160.













الصفحة 28


قال: ویحك، أمثلی یسأل عن هذا؟


قال: قد أوجبت على نفسك أن تجیب.


قال: أما إذا أبیت، فإن خمر الجبل أقوى، وأسكر، وخمر السهل أحسن وأسلس.


قال: فأی الزوانی أفره؟ أزوانی رامهرمز، أم زوانی أرّجان؟!


قال: ویحك، إن مثلی لا یسأل عن هذا.


قال: لابد من الجواب، أو تغدر.


قال: أما إذا أبیت، فزوانی رامهرمز أرق أبشاراً، وزوانی أرّجان أحسن أبداناً الخ…»(1).


____________



(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج14 ص170 عن الأغانی ط دار الكتب المصریة ج6 ص149.













الصفحة 29